سما يوسف الشوفي
العمر: 17 عام
“انتباه… انتباه:
- على الشباب القادرين على حمل السلاح حماية الــ …
- يرجى التوجّه إلى المشفى للتبرع بالدم..
- نزفّ إليكم شهداء الكرامة…
- فُقدت طفلة ترتدي…
- عائلة فلان تبحث عن مكان استضافة أقربائهم…
إنصاتٌ تام وصمتٌ مطبق.. ترقّبٌ لأيّ خبرٍ يغيّر طيّات وجوهنا وقسماتها، ليرسم ابتسامة صغيرة في ظلّ هذه المأساة.. ولكن لم ينذر الميكروفون إلّا بالأخبار السيئة.
مع انقطاع الاتصالات بكلّ أشكالها أصبح المذياع في المدينة مصدرنا الوحيد لسماع الأخبار، وقد استقبلت صلخد ( مدينتي) تغريبةَ السويداء، وفتحت يديها لتضمّ أهلنا وأخوتنا. احتضنتهم بيوتنا، وتحوّلت مدارسنا ومراكزنا لبيتٍ ثانٍ لهم، قد لا يكون هذا بيتاً مناسباً بطبيعة الحال، فهو غير مصمم لذلك ولو اتسعت بيوتنا للمزيد لما سمحنا لشخصٍ بأن يقيم في مدرسة أو مركز استضافة.
تقاسمنا بظل الحصار الطعام القليل، مثلما تقاسمنا أوجاعَنا ودموعَنا، تبادلنا الأدوار، كلّ يواسي الآخر بمصابه، ولأنّ الأمل خيارُنا الوحيد لتستمر الحياة، حاولنا رسم الضحكات من خلال الأحاديث واستحضار الذكريات، أو التخيّل أحياناً أخرى.
لم أكن أشعر بالحبّ تجاه منزلي فعلاً، كانت بعض جدرانه المتشققة وأرضياته القديمة تزعجني، لكن بعد الأحداث تغيّر ذاك الشعور، فقد أصبح لبيتنا مكانة مختلفة في نظر الجميع. البيت الذي آوانا وحمانا، كان النعمة التي حمدنا الله عليها، جلسنا في عتباته وحاولنا تغيير مزاجنا باختراع الضحكات، وإليها خرجنا مسرعين لمحاولة سماع الميكروفون، ومنها خرجنا متلهفين لاستقبال الزوّار بعد انتظارنا وصولهم سالمين تحت القصف، نستقبلهم بالترحيب والضحكات، نحمد الله على سلامتهم. ومن ثمّ نودّعهم بالدموع بعد انقضاء المأساة جزئياً وحلول الأمان تقريباً في منازلهم، ودّعناهم كأننا نودّع فرداً من الأسرة.. ودعناهم بالدموع على كبر المصاب وبحزن الاعتياد على وجودهم، أقام بعضهم أسبوعين والبعض الآخر شهرين، نعيش على التقاسم فعلاً. فما فائدة الأشياء والمشاعر إن كانت حكراً على واحد فقط؟
كانت الجدران شاهداً صامتاً على أيامنا. ولربما جزء مهم فيها مشاركٌ بهذه الرقصة الكونية العجيبة، كانت تمسح دموعنا المخفية عند سماعنا استمرار الهجوم واستشهاد المزيد والمزيد، حرق البيوت، التهجير، حالات ضياع الأطفال. هل اختطفوا؟ قتلوا؟ أم ضاعوا فعلاً؟! فالمكان الذي كانوا وكنّا نألفه، تغيرت ملامحه، صُبغ بالدماء و بالرماد بعد حرقه. دُمّرتْ أعمدته؟ ولكنها – معنوياً – ظلت صامدة ومتجذرة بالأرض، وبقلوبنا بالحبّ.
ماذا يعني المكان للإنسان؟
لماذا تتجذّر البيوت بقلوبنا؟
لماذا تشهد الحجارة على حياتنا؟
هل لها عيون وفيها حياة لتشارك برقصة الكون حتى؟
من هنا ينبع عمق الإدراك المتأخر للأسف. فنحن لا ندرك قيمة الأشياء إلّا عندما نشعر بأننا مهددون بفقدانها. كنتُ ولا زلتُ أحبّ سويدائي. لكني صرت أراها بحبّ أكبر. أحبّ بيوتَها وسكانَها الذين عند طرقك لأبوابهم فوراً يقولون لك: (تفضّل يا خيي). كلمتان تحملان الكرم والضيافة أولاً، ثم الحبّ والإخاء. دائماً بلهفةٍ كأننا من عائلة واحدة، لهذا ربما نحبّ المكان لارتباطه بمَن نحب ولذكرياتنا فيه، نحبّ البيوت لأنها ضمّتنا تحت سقوفها، تتحول فيها الجدران من حجارة إلى أمان حين يكون أحباؤنا خلفها، يقولون إنّ القصر الفارغ بلا قيمة. عتبةٌ صغيرة – تتسع لأهلنا – تكفينا، تحت ظلّ أشجار التفاح وبين أزهار الياسمين وصوت ضحكاتنا يعلو مع صوت أغنياتنا.
بات للصوت ارتباط آخر بمشاعرنا. من صوت الميكروفون وما يثيره من أمل وخوف بآن واحد، إلى صوت الرصاص وارتباطه بذكريات الاجتياح المأساوي. ننظر بخوف ونختبئ مبتعدين عن النوافذ، نحتضن بعضنا ونبدأ بالدعاء والبحث عن الطمأنينة، الكل خائف. والكل يدعي عدم الخوف. نحاول التخفيف عن بعضنا ونترقّب، أهو اجتماع! أهو احتفال! أهو تشييع شهيد!
حتى طرقات الباب التي كنا نتلهف عند سماعها لنقول أهلاً وسهلاً. أصبحنا نخاف! مَن الطارق يا ترى؟ مَن يقف خلف هذا الحاجز الخشبي؟ بين خوفٍ من قاتلٍ غادر، وبين لهفة أنه يكون أحد الملتجئين لندخله على الفور.
من المؤسف أحياناً هذا الارتباط بين الصوت بالأشياء. فرغم مرور المأساة جزئياً، إلا أننا نعاني فعلياً. ونحتاج جميعاً إلى علاج نفسي، أصبحنا نخاف ونفزع من كل صوت. أهذا طبيعي؟؟ حتماً لا. المأساة ارتبطت بحواسنا، سمعنا الانفجارات وعويل الناس وأخبار موتهم، رأينا المجازر بعيوننا واقعياً أو عبر الفيديوهات المصورة، شممنا رائحة البارود المختلط بالدماء، واكبت حواسُنا الموقف بكل تفاصيله، صغيرةً كانت أم كبيرة، فالعقل البشري بطريقة علمية بحتة له باحات خاصة بالسمع والرائحة والحواس الأخرى. وبحسب فلسفة الحياة ومساراتها الروحية، فإنّ لمشاعرنا ارتباط بالماديات والأشياء من حولنا، نحن نعطيها قيمة ومكانة حين نُسقط عليها مشاعرَنا وأحاسيسنا، بكرهنا أو حبنا. نحن نميزها، وما باليد حيلة. لا يمكن فصل الحواس عن المشاعر.
مرّت ثلاثة أشهر على الكارثة إلّا أننا لا نزال نعيش فيها، لا تزال الأصوات ترن بآذاننا من (سوري أنا يا خيي) إلى (فيقو نلم الشهدا..)، لا نزال نتردد عند كل صوت ميكروفون، عند كل طرقة وكل همسة، وعيوننا التي أنهكها رؤية الدمار تبحث بين أنقاضه عن مظاهر الحياة في المدينة لنتأكد أننا عشنا كل هذا أم كان حلماً! وعند تأجج العاطفة – وكلما ضاقت بنا الحياة – نتوجه بالدعاء. كنّا نردد (الله أكبر) فهو العزة والملاذ والحامي، لكنّ هذه العبارة رددها الغزاة إعلاناً لذبحنا وقتلنا باسم الدين، لكن ولأننا مؤمنون بك يا الله… مؤمنون برحمتك ولطفك… ليكن القادم أفضل.. لنرى سوريا حرة في يوم من الأيام.. لننعم بالسلام والأمان.. لنستطيع المضي قدماً وتحقيق الأحلام.