ماذا يعني أن نكون جيراناً؟

نوار زيدان
……

لم تتأتى القيمة الإيجابية التي يتضمنها مفهوم “الجيرة” عبر تاريخ حدوثه من التصورات الهشّة للأفراد والجماعات, بل إنّ هذه القيمة ولدت تاريخياً من المِحكّات العميقة في فضاء الواقع الاجتماعي وسيرورته, ولهذا فإن المعرفة قد شكلت إحدى المحكّات الأهم التي أسست للجيرة وأطلقتها, فما هو معروف, هو القريب منّا دائماً, بينما كل بعيد هو غريب بحكم بعده الجغرافي على الأقل , فمن البديهي إذن أنّ التجاور الذي يصنع الجيرة, يبدأ لحظة انكشاف وانفتاح الجارين على بعضهما البعض, مما يتيح للمعرفة أن تكون مشتركة ومتبادلة, وللعلاقة أن تكون واضحة وصريحة
وبهذا السياق فإنّ الاستخدامات اللغوية الشائعة مثل:( جارك من أجارك, الجار قبل الدار), تظهر كتأكيداتٍ عميقةٍ على الخبرة الاجتماعيّة لمردود العلاقة التي تصنعها الجيرة في البعدين المعنوي والمادي للواقع, فالمعرفة كخبرة واقعيّة عاشها ويعيشها الأفراد, تنتج عن الاعتماد المتبادل بين الجارين, مما يجعل من المعرفة بوابةً حاسمةً لمرور الثقة المتبادلة كي تصبح ممكناً واقعياً واجتماعياً, لأننا في النهاية نثق بمن وبما نعرف, وهذه الثقة إذا تراخت في مكانٍ أو وقت ما, فإن السرديات التاريخيّة المشتركة تضطلع بمهمّة سد الفجوات, خاصةً إذا كان التاريخ بين الجيران تاريخَ اتصال لا انقطاع كتاريخ السهل والجبل في حوران, فالجيرة بينهما بما هي معرفة وثقة متبادلان, كانت الخيار الواقعي والعقلاني لأبناء المحافظتين, منذ الاحتلال العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي على سوريا حتى اليوم, على الرغم من كلّ الفتن التي ثارت وتُثار بينهما
كما أنّ مفهوم الجيرة من جهة أخرى, لا يمكن أن يتعيّن من دون تعيّن الألفة بين الجيران, فالمألوف الذي يتأسس أيضاً في المعرفة, يمكن قراءته على أنه العادات المشتركة التي تربط الجارين بحكم تجاورهما, وعلاقة السهل والجبل تتجذر في ألفةِ الكثير من العادات والتقاليد, التي شكلت أعرافاً مشتركة بينهما, وجعلت من المحافظتين تتقاسمان تراثاً واحداً, فالألفة بهذا المعنى هي تجاوز المعرفة إلى المعرفة الحميمة, وهي بهذا تسهم إسهاماً فاعلاً في نقل العلاقة من ضفة العادات المشتركة إلى ضفة المصير المشترك, والذي يظهر معناه العميق في المأثور الشعبي:( الجار قبل الدار)
لا شكّ أنّ الشبكة الواسعة من العلاقات التي يوفرها مفهوم الجيرة, تتشكّل خيوطها الأولى في الخيار العقلاني للأفراد الناتج عن فهم المصلحة المشتركة للجيران في تمكين هذه العلاقة وضمان استمرارها, ولكن هذه العقلانية في ظروف استثنائية قد تتضاءل وتنكمش إلى حدود التوجس, ممّا يسهّل قلب المفاهيم وتحريفها, فالجور الذي يُشتق من الجذر اللغوي ذاته للجار, يمكن أنّ يزعزع مفهوم الجيرة ويشتته, ولكن هذا الجور بالمحصلة والذي يقف ضد العلاقات الطبيعيّة والمتداخلة بين الجيران, هو الدخيل على الأصيل في العلاقة بينهما ولا يمكن القياس عليه طالما أنه طارئ.
من الواضح أنّ الروابط التي تفرضها الجيرة, تتعلّق في أبسط صورها الاجتماعيّة بالجانب الأخلاقيّ, الذي يحمل المعطى الأهمّ في أيّ علاقة: الاحترام المتبادل, والذي يتطلّب حدّاً بعيداً من العقلانيّة, والسرديات التاريخيّة للسهل والجبل تمكنت عبر تاريخها من تعميق هذه العقلانية والشهادة عليها معاً, وهذا ما يؤكد أن الجور الذي وقع بين المحافظتين, ليس الموقف العام لأبنائهما, بل هي حوادث تمثل جهاتٍ وأفراداً, يتفق الجميع على تردّيها وسقوطها الأخلاقي وتبعيتها لجهات مغرضة, إنها عارض على الجيرة التي نحتها تاريخ المحافظتين بالثقة والمحبّة والعقل, ولهذا فإن صوت العقل وأصوات العقلاء تعلو دائماً في المحافظتين, عندما يهدد خطر ما جيرتهما

اترك تعليق