مشروع العدالة الانتقالية في سوريا على ضوء التجارب الدولية

فهرس المحتويات

  1. المقدمة …………………………………………………………..……………………….. 2
  2. المرتكزات الأساسية للعدالة الانتقالية …………………………………………. 3
  3. التجارب الدولية في العدالة الانتقالية ………………………………………….. 4
  4. دروس مفيدة في السياق السوري …………………………………..………….. 6
  1. العدالة الانتقالية في سوريا ……………………………………………………….. 7
  2. نحو نموذج عدالة سوري متكامل ………………………………..……………… 10
  1. السيناريوهات المحتملة لمسار العدالة الانتقالية في سوريا .……..… 12
  2. الخاتمة والتوصيات ………………………………………………………….………. 13
  3. المراجع …………………………………………………………………………….…….. 15

1. مقدمة

يقف السوريون اليوم أمام سؤال مركزي: كيف نُعيد بناء وطنٍ مزّقته الجرائم دون أن نعيد إنتاج أدواتها؟ كيف نصوغ عدالة تُنصف، دون أن تؤجج؟ وتُصالح، دون أن تنكر؟ كيف نعيد الثقة، لا فقط في مؤسسات الدولة، بل في بعضنا البعض كمواطنين متساوين في الكرامة والحقوق؟ في هذا المفترق، تطرح العدالة الانتقالية نفسها، لا كشعارٍ نظري، بل ضرورة واقعية وملّحة، ومنهج عمل متكامل للسير نحو مستقبلٍ أكثر عدلاً.

العدالة الانتقالية، كما تُفهم اليوم، لم تكن جزءاً من القانون الدولي منذ بداياته، بل نشأت كتجربة إنسانية متطورة قبل أن تتبلور في إطار نظري متكامل. وضعت محاكمات نورمبرغ (1945) ضد قيادات النظام النازي اللبنات الأولى لفكرة “العدالة بعد الجرائم الجماعية”، لكنها بقيت مرتبطة بعدالة المنتصر، لا بعدالةٍ تشاركية تعبّر عن المجتمع نفسه. وبينما مثّلت نورمبرغ سابقة دولية، ظهرت في الأرجنتين (1983) أولى المحاولات الوطنية لتطبيق العدالة الانتقالية منهجياً عبر محاسبة الجناة، وتوثيق الحقيقة، والاعتراف بضحايا الانتهاكات. وفي تسعينيات القرن الماضي، ومع نهاية الحرب الباردة وتصاعد أزمات جديدة في جنوب أفريقيا، رواندا، البوسنة، بات العالم أمام حاجة ملحّة لبناء أدوات قانونية وأخلاقية للتعامل مع الماضي العنيف دون إشعال نزاعات جديدة.

هكذا، تبلور مفهوم “العدالة الانتقالية” كمجالٍ يجمع بين القانون وحقوق الإنسان والسياسات العامة والذاكرة الجماعية. وهو يقوم على أربع ركائز مترابطة: كشف الحقيقة، المساءلة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات. وقد تُوّج هذا المسار بإنشاء مؤسسات متخصصة، أبرزها المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) عام 2001، الذي ساهم في صياغة النظريات وتقديم الدعم الفني لتجارب متعددة حول العالم.

وعلى الرغم من الطابع العالمي والنظرياتي للمفهوم غير أنه، يتشكّل في كل بلد حسب ظروفه وتاريخه وموازين قواه. فالعدالة الانتقالية ليست منظومة جاهزة تُستورد، ولا وصفة دولية تُسقَط من الخارج، بل هي مشروع مجتمعي، وفلسفة أخلاقية، تجمع بين تحقيق العدالة للضحايا والمصالحة المجتمعية والوطنية. بهدف تحقيق الاستقرار وطيّ صفحة الماضي على أساس من الاعتراف وضمان عدم التكرار. إذن، فالسؤال ليس: “هل نريد العدالة؟” بل: كيف نحقق العدالة؟ وأيّ عدالة نريد؟”. وأين يقع صوت الضحايا في كل ذلك؟

هذا الكتيب يسعى إلى:

  • توضيح المفهوم وتعريف مرتكزاته.
  • عرض أبرز النماذج العالمية.
  • مقاربة التجارب العالمية مع الواقع السوري
  • طرح تساؤلات عملية حول تحديات العدالة في السياق السوري
  • تقديم توصيات

2.  المرتكزات الأساسية للعدالة الانتقالية

تُشكّل العدالة الانتقالية إطاراً ضرورياً لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والانطلاق نحو بناء دولة القانون والمواطنة. وتقوم على أربعة مرتكزات أساسية، يتعين دمجها في استراتيجية وطنية متكاملة تُراعي السياق المحلي وتضع الضحايا في قلب العملية.

 نستعرض هذه المرتكزات من حيث المفهوم، الهدف، والآليات:

أ. المساءلة والمحاسبة

 تشكل المساءلة القانونية عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ركيزة أساسية في مسار العدالة الانتقالية، إذ تهدف إلى وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب، وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتعزيز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة وسيادة القانون.

وتتنوع آليات المساءلة لتشمل:

  • المحاكمات الجنائية، سواء أمام محاكم وطنية أو دولية.
  • الهيئات القضائية المختلطة التي تجمع بين قضاة محليين ودوليين.
  • إنشاء نيابات عامة مستقلة.
  • آليات العدالة التقليدية أو المجتمعية.
  • تقارير لجان تقصي الحقائق كأساس للمساءلة.
  • إصلاح مؤسسات القضاء والأمن.
ب. كشف الحقيقة

 يُعدّ الحق في معرفة الحقيقة من الحقوق الأساسية للضحايا والمجتمعات، وهو شرط أساسي لتحقيق العدالة والمصالحة. تهدف عمليات كشف الحقيقة إلى توثيق ما حدث، وتحديد المسؤوليات الأخلاقية والسياسية، وبناء سردية وطنية جامعة.

وتتضمن آليات كشف الحقيقة:

  • لجان الحقيقة والمصالحة.
  • أرشفة وتوثيق الانتهاكات.
  • فتح الملفات الرسمية السرية.
  • الاستماع إلى شهادات الضحايا والناجين.
  • المشاريع الثقافية والفنية والبحثية التي توثق الذاكرة الجماعية.
ج. جبر الضرر

يتجاوز جبر الضرر التعويض المالي ليشكّل مساراً متكاملاً نحو استعادة كرامة الضحايا. يُنظر إليه كوسيلة لمداواة الجراح الجماعية، وتحقيق شكل من أشكال العدالة التصالحية.

تشمل آليات جبر الضرر:

  • تعويضات مالية وخدمات دعم اجتماعي.
  • العلاج النفسي وإعادة التأهيل.
  • اعتذارات رسمية من الدولة.
  • نصب تذكارية ومواقع للذاكرة.
  • برامج الإدماج المجتمعي.
  • ضمانات عدم التكرار.
د. إصلاح المؤسسات

 يهدف إصلاح المؤسسات إلى تفكيك البُنى التي مكّنت من ارتكاب الانتهاكات، وبناء مؤسسات جديدة تقوم على الحوكمة الرشيدة وسيادة القانون.

وتشمل آليات الإصلاح:

  • تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية.
  • إعادة بناء مؤسسات إنفاذ القانون على أسس مهنية.
  • سن تشريعات جديدة متوافقة مع حقوق الإنسان.
  • إنشاء آليات رقابة مستقلة.
  • تدريب الكوادر على المبادئ الحقوقية.
  • مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية.

إن دمج هذه المرتكزات الأربع المساءلة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، ضمن استراتيجية وطنية شاملة، تراعي الخصوصية السورية وتضع الضحايا وكرامتهم في صلب العملية، هو السبيل الوحيد لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية وذات معنى، تُمهّد لبناء دولة القانون والمواطنة.

3. التجارب الدولية في العدالة الانتقالية

تُشكّل التجارب الدولية في العدالة الانتقالية مصادر غنية بالدروس والعبر التي يمكن الاستفادة منها في السياق السوري. من خلال استعراض عدد من النماذج، يتضح أن العدالة الانتقالية ليست مقاربة واحدة، بل طيف من السياسات والأدوات التي تتفاعل مع السياق السياسي والاجتماعي والثقافي لكل بلد. فيما يلي عرض لأهم التجارب:

  • جنوب أفريقيا (1994–حتى الآن): مصالحة تبحث عن عدالة

السياق: عقب نهاية نظام الفصل العنصري، واجهت البلاد تحدي معالجة إرث الانتهاكات العنصرية المنهجية دون السقوط في الانتقام.

الآلية: لجنة الحقيقة والمصالحة (TRC) اعتمدت مبدأ العفو مقابل كشف الحقيقة الكاملة.

النتائج: كشفت آلاف الشهادات عن حقيقة الانتهاكات، وخلقت ذاكرة جماعية، لكن ظلت المطالب بالمحاسبة قائمة.

ملاحظة نقدية: نموذج قوي في المصالحة الرمزية، لكنه لم يُنهِ التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية البينيّة.

  • رواندا (1994–حتى الآن): عدالة المجتمع في مواجهة الإبادة

السياق: أعقبت الإبادة الجماعية محاولات واسعة لمساءلة المتورطين.

الآلية: محاكم “الغاتشاكا” المجتمعية، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا.

النتائج: أكثر من مليون قضية نُظر فيها، وصدور آلاف الإدانات.

ملاحظة نقدية: ساد نمط “عدالة المنتصر” وسط غياب ضمانات قضائية كافية.

  • تشيلي (1973–حتى الآن): عدالة في مواجهة الصمت

السياق: حكم عسكري قمعي بقيادة بينوشيه تبع انقلاباً على حكومة منتخبة.

الآلية: لجان تقصي الحقائق (ريتيغ 1991، وفاليتش 2004)، وتحديات قانونية لقانون العفو.

النتائج: إدانة المئات بعد عام 2000، واعتراف الدولة الرسمي بالانتهاكات.

ملاحظة نقدية: العدالة تحققت متأخرة، مما أضعف ثقة الضحايا في الدولة.

  • المغرب (2004–2006): الإنصاف دون المحاسبة

السياق: بعد عقود من القمع السياسي، سعى النظام إلى ترميم العلاقة مع المجتمع.

الآلية: هيئة الإنصاف والمصالحة، توثيق، وجبر ضرر مالي.

النتائج: اعتراف رمزي وتعويضات، لكن دون مساءلة جنائية.

ملاحظة نقدية: عدالة رمزية افتقرت إلى قوة الردع المستقبلية.

  • الأرجنتين (1983–حتى الآن): لا أحد فوق القانون

السياق: بعد نهاية الحكم العسكري، برزت مطالب بمحاسبة المتورطين في “الحرب القذرة”.

الآلية: محاكمات مباشرة، ثم تجميد بقوانين عفو، أعيد فتحها لاحقا.

النتائج: إدانة كبار القادة، وإرساء ثقافة حقوقية جديدة.

ملاحظة نقدية: نموذج ناجح رغم العقبات القانونية والسياسية.

  • البوسنة والهرسك (1995–حتى الآن): عدالة دولية وسط انقسام داخلي

السياق: بعد حرب أهلية عرقية شرسة، تدخلت الأمم المتحدة لإنشاء آليات للمحاسبة.

الآلية: المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY)، وآليات وطنية هجينة.

النتائج: محاكمات رمزية لقادة من كل الأطراف، ولكن دون مصالحة مجتمعية حقيقية.

ملاحظة نقدية: نجاح قضائي جزئي قابله فشل في المصالحة المجتمعية وبناء الثقة.


4.  دروس مفيدة في السياق السوري

تُظهر التجارب الدولية في العدالة الانتقالية أن هذا المسار لا يخضع لقالب موحّد، بل يتشكّل ويتكيّف بحسب خصوصية كل مجتمع. في الحالة السورية، لا يمكن نسخ أي تجربة كما هي، لكن يمكن الاستفادة من الدروس المتراكمة لصياغة مسار وطني حقيقي وفعّال. فيما يلي أبرز الدروس التي يمكن البناء عليها:


أ. العدالة الانتقالية ليست قالباً جاهزاً

كما أوضحت تجارب جنوب أفريقيا، رواندا، الأرجنتين وغيرها، لا توجد وصفة واحدة أو نموذج مثالي يصلح للجميع.
المسار السوري يجب أن يُصمَّم محلياً، بالتشاور مع مختلف المكونات المجتمعية والسياسية، مع الاستفادة الذكية من الأدوات الدولية بما يتناسب مع الثقافة المحلية وتطلعات الضحايا.


ب. نجاح العدالة يكمن في تكامل أدواتها

النموذج البوسني يُظهر أن الاعتماد الحصري على القضاء الدولي فشل في بناء مصالحة حقيقية.
في سوريا، لا بد من دمج جميع المرتكزات: المحاسبة، التوثيق، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، ضمن مسار مترابط لا متوازٍ فقط.


ج. صوت الضحايا ليس تفصيلًا… بل جوهر

كما في المغرب والأرجنتين، لا يمكن أن تكتسب العدالة الانتقالية شرعيتها بدون مشاركة الضحايا في كل مرحلة: من تصميم السياسات، إلى تحديد الأولويات، ومراقبة التنفيذ.
تغييب صوت الضحايا يُنتج عدالة رمزية، ويُعيد إنتاج الإقصاء نفسه الذي تسبب في الجراح الأصلية.


د. لا عدالة بلا مؤسسات نزيهة

من أهم دروس رواندا وتشيلي أن العدالة لا تتحقق فقط عبر القوانين، بل عبر مؤسسات قادرة على تنفيذها بعدالة ومهنية.
في سوريا، لا معنى لمسار عدالة دون إصلاح جذري في القضاء والأمن، وهو ما يجب أن يتم قبل أو بالتوازي مع أي آليات عدالة انتقالية.


هـ. بين الانتقام والنسيان: سردية وطنية شاملة

تُظهر تجربة جنوب أفريقيا أهمية بناء سردية وطنية جامعة لا تُنكر الألم، ولا تبرّئ الجناة، بل تعترف بالانتهاكات كجزء من التاريخ الوطني.
في الحالة السورية، هذا التوازن ضروري لتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية.


و. المصالحة لا تُفرض… بل تُبنى

كما فشلت البوسنة في بناء مصالحة مجتمعية رغم المحاكمات، فإن المصالحة في سوريا لا يمكن فرضها من فوق، بل تُبنى عبر عملية متكاملة من الاعتراف، المحاسبة، الإصلاح، ورضا شعبي واسع.


خلاصة

لا توجد عدالة بلا سياق، ولا مصالحة بلا مساءلة.
إن بناء مسار سوري للعدالة الانتقالية يتطلب قراءة متأنية للتجارب الدولية، لكن الأهم من ذلك هو الإنصات لصوت الداخل: للضحايا، وللمجتمع، ولحاجته في الخروج من الماضي دون أن يُنسى.

5.  العدالة الانتقالية في سوريا

  في هذا الفصل، ننتقل إلى معاينة أعمق للسياق السوري، والفرص والتحديات التي تقف أمام أي مشروع عدالة انتقالية حقيقي.

أولاً: السياق

شكّل سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024 نقطة تحول سياسية كبرى، لكنه لم يكن نهاية لمسار الصراع، بل مدخلاً لمرحلة انتقالية معقدة تتشابك فيها تطلعات بناء دولة جديدة مع تركة ثقيلة من الانتهاكات والانقسامات. تمخضت المرحلة عن إعلان دستوري مؤقت، وتشكيل حكومة انتقالية، وسط استمرار تدخلات إقليمية ودولية، وغياب توافق وطني شامل على مستقبل العملية السياسية.

في هذا الإطار، عاد ملف العدالة الانتقالية إلى الواجهة كأحد المحاور الجوهرية في إعادة بناء سوريا، لكنه واجه منذ البداية تحديات ملموسة: هشاشة المؤسسات، غياب جهاز قضائي مستقل، وانقسامات مجتمعية عميقة خلفتها سنوات من العنف والنزاع. وقد رافق المرحلة الانتقالية ظهور أنماط جديدة من الانتهاكات، لاسيما في بعض المناطق التي شهدت أعمال تصفية فردية أو جماعية بدافع الانتقام، مما أثار مخاوف حقيقية من تسييس العدالة واستخدامها كأداة لتصفية الحسابات.

في ظل هذا الواقع، تبرز الحاجة إلى عدالة انتقالية تُصاغ بروح توافقية، تُنصف الضحايا دون انتقاء، وتوفر ضمانات للمساءلة دون تعميم الاتهام. إن مقاربة العدالة في سوريا اليوم يجب أن تتأسس على اعتراف متبادل بالمعاناة، واحترام للوقائع، والالتزام ببناء مؤسسات قادرة على تنفيذ العدالة بوصفها حجر الزاوية في المصالحة الوطنية، لا وسيلة لتكريس الغلبة أو إدامة الانقسام.

ثانياً: تشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية

في 17 مايو 2025، صدر مرسوم رئاسي بتأسيس “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية”، لتكون أول مؤسسة رسمية تُعنى بمحاسبة جرائم الماضي وتوفير الإنصاف للضحايا. 

تشكيل الهيئة ومهامها:

  • الاسم الرسمي: الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
  • تاريخ التأسيس: 17 مايو 2025
  • المقر: دمشق
  • رئيس الهيئة: عبد الباسط عبد اللطيف
  • المهام الأساسية:
    • كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها النظام السابق.
    • مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الانتهاكات بالتنسيق مع الجهات المعنية.
    • جبر الضرر الواقع على الضحايا.
    • ترسيخ مبادئ عدم التكرار وتعزيز المصالحة الوطنية

تتمتع الهيئة بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وتمارس مهامها في جميع أنحاء الأراضي السورية.

ثالثاً: الانتقادات الموجهة لتشكيل الهيئة ومهامها
  1. محدودية الصلاحيات الفعلية
    رغم إعلان الاستقلال المالي والإداري، تبقى صلاحيات الهيئة غير محمية بنصوص ملزمة، مما يضعف قدرتها على الوصول إلى المعلومات أو فرض توصياتها على الجهات القضائية والتنفيذية.
  2. هيمنة السلطة التنفيذية على عملية التشكيل
    تم تشكيل الهيئة بمرسوم رئاسي دون إشراك فعلي للبرلمان (الذي لم يُفعّل بعد) أو لممثلي الضحايا والمجتمع المدني، مما يُضعف من شرعيتها التشاركية.
  3. غياب الإطار الدستوري أو القانوني الناظم
    لم تُحدد مهام الهيئة واختصاصاتها ضمن الإعلان الدستوري أو في قانون خاص، مما يجعلها عرضة للتدخل السياسي أو للتفسير الفضفاض لمهامها.
  1. غياب خطة زمنية واضحة
    لم تُعلن الهيئة عن جدول زمني لبدء عملها، أو معايير لاختيار الملفات، أو خطوات تنفيذية محددة، ما يعزز الانطباع بأنها هيئة رمزية أكثر منها تنفيذية.
  2. انعدام آليات المشاركة المجتمعية
    لم تُفتح أبواب الهيئة للضحايا، ولا تمّ الإعلان عن آليات تلقي الشكاوى أو الشهادات، ما يُقصي أصحاب الحق من المسار.
  3. غياب آليات للمساءلة والرقابة على الهيئة نفسها
    لا توجد لجنة رقابة مستقلة أو تقارير دورية ملزمة، ما يفتح المجال أمام انحرافات محتملة أو تعطيل داخلي.
  4. عدم وجود سلطة تشريعية داعمة
    غياب برلمان فعّال وممثل يجعل من الصعب إقرار قوانين داعمة لمهام الهيئة أو تعديل الأنظمة القائمة بناءً على توصياتها.
  5. التركيز على انتهاكات النظام
    بيان التأسيس ركّز على الجرائم التي ارتكبها النظام السابق، دون الإشارة إلى الانتهاكات الجارية حاليا، أو إلى الانتهاكات التي قامت بها جهات مختلفة، مما يثير مخاوف من عدالة انتقائية.
رابعاً: أسئلة العدالة في سوريا:
بين الإنصاف والشرعية السياسية والقانونية

يطرح المسار السوري سلسلة من الأسئلة الجوهرية، التي لا يمكن لأي عدالة انتقالية أن تتجاوزها:

  • كيف يمكن ضمان عدالة شاملة تُنصف جميع الضحايا، دون أن تُختزل في سردية طرف واحد أو تتحول إلى أداة انتقام سياسي؟
  • من يملك الشرعية لتمثيل الضحايا؟ وكيف نمنع احتكار صوتهم أو توظيفه ضمن استقطابات سياسية أو طائفية؟
  • هل العدالة ممكنة في ظل اختلال ميزان القوى وغياب مؤسسات قضائية مستقلة؟
  • ما الذي يعنيه “الاعتراف الحقيقي” بضحايا الماضي والحاضر؟ وهل لدى السلطة الجديدة الاستعداد للاعتراف بانتهاكاتها أو تلك الجارية؟
  • إلى أي حد يمكن الفصل بين ملف العدالة الانتقالية والصفقات السياسية الجارية في الإقليم؟ وهل تملك سوريا قرارها السيادي في هذا المسار؟
  • ما هو الإطار القانوني الذي يحكم عمل هيئة العدالة الانتقالية؟ وهل سيتم سنّ قانون خاص بها يضمن استقلاليتها وشفافيتها؟
  • هل يُسمح بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة بأثر رجعي؟ وما حدود ذلك وفق مبدأ “لا عقوبة بلا نص”؟
  • كيف ستتم معالجة تعارض القوانين الوطنية الحالية مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان؟
  • وأخيرا، كيف نضمن أن تكون العدالة الانتقالية أداة تفكيك بنى الاستبداد القديمة، لا غطاءً لإعادة إنتاجها بأشكال جديدة؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة لا تتطلب فقط نوايا سياسية، بل بنية قانونية ومجتمعية قادرة على إنتاج نموذج عدالة يحمي الكرامة، ويوحّد السردية، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد.

6. نحو نموذج عدالة سوري متكامل

ليست العدالة الانتقالية مساراً للثأر أو معاقبة الخصوم، بل فرصة لإعادة بناء الوطن على أسس الشراكة، والمساءلة، والكرامة الإنسانية. وفي سوريا، حيث تتقاطع انتهاكات الماضي مع انتهاكات الحاضر، فإن أي نموذج عدالة فعال يجب أن يُصاغ بما يراعي الواقع القائم لا مجرد التسويات السابقة.

إن نجاح هذا المسار مشروط بتجاوز منطق “المنتصر والمهزوم”، والانتقال إلى منطق الدولة الجامعة التي تنصف الضحايا جميعا، وتعيد الثقة في المؤسسات، وتمنح الجميع موقعا متساويا في المستقبل. العدالة هنا لا تقتصر على المساءلة القانونية، بل تشمل كشف الحقيقة، جبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، ومصالحة مجتمعية ضمن إطار يضمن عدم التكرار، ويُؤسس لعقد اجتماعي جديد.

ولتحقيق ذلك، تحتاج سوريا إلى نموذج عدالة انتقالية يُبنى على الخصوصية المجتمعية والتجربة التاريخية، ويراعي المبادئ التالية:

أ.  التشاركية

العدالة الانتقالية لا تُبنى من أعلى، بل من القاعدة الاجتماعية التي عانت من العنف والإقصاء. فالضحايا ليسوا مجرّد مستفيدين من العدالة، بل شركاء في صياغة أهدافها، واختيار أدواتها، ومراقبة تنفيذها.
وكذلك يلعب المجتمع المدني دورا حاسما في التوثيق، حفظ الذاكرة، والمناصرة، كما أظهرت تجارب الأرجنتين (أمهات ساحة مايو)، جنوب أفريقيا، والمغرب.

في السياق السوري، ورغم القمع والتشظي، راكمت منظمات مدنية محلية خبرات مهمة في توثيق الجرائم، تقديم الدعم النفسي، والعمل المجتمعي. إن دمج هذه الخبرات ضمن البنية المؤسسية للعدالة القادمة هو شرطٌ لتحويل العدالة من مسار رسمي إلى عقد اجتماعي حيّ يعكس صوت الناس وذاكرتهم.

ب.  المؤسساتية

يستلزم مسار العدالة تأسيس منظومة متكاملة تشمل:

  • هيئة عدالة انتقالية مستقلة
  • قضاء مهيكل ومؤهّل
  • لجان حقيقة ومساءلة
  • برامج متخصصة لجبر الضرر ودعم الضحايا

وجود هذه المؤسسات لا يضمن فقط التطبيق، بل يُكرّس ثقافة قانونية جديدة تتجاوز منطق الغلبة.

ج. الدسترة

حتى تكون العدالة الانتقالية مستدامة وغير خاضعة للتقلبات السياسية، يجب أن تُدمج في النص الدستوري القادم. هذا الإدماج يمنحها قوة إلزامية، ويحميها من التوظيف السياسي، ويجعلها جزءاً من العقد الاجتماعي لا مجرد سياسة عابرة.

د.  التحصين الدولي

لا غنى عن التعاون مع المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، لضمان:

  • الرقابة المستقلة
  • الدعم الفني والتقني
  • تبادل الخبرات
  • الحماية من الضغوط السياسية الداخلية

إن العدالة الانتقالية في سوريا ليست فقط استحقاقاً قانونياً، بل فرصة تاريخية لإعادة بناء الوطن على أساس عادل. وإن نجح هذا المسار، فهو لا يُنصف الضحايا فقط، بل يعيد للمجتمع السوري ثقته في ذاته وفي دولته، ويضع الأساس لعقد اجتماعي جديد لا يكرر مآسي الماضي.

7.  السيناريوهات المحتملة لمسار العدالة الانتقالية في سوريا

تُعبّر هذه التقديرات عن تحليل نوعي مبني على مراجعة السياق السياسي والاجتماعي الراهن في سوريا (2025)، مع الاستفادة من الدروس المستخلصة من تجارب دولية مماثلة مثل جنوب أفريقيا، رواندا، والأرجنتين. لا تعتمد هذه التقديرات على مسح ميداني مباشر، بل تُقدَّم كتصور مرجعي يساعد في تقييم احتمالات تحقق مسارات العدالة الانتقالية، ويمكن أن تساهم في تصحيح المسار والدفع به نحو أفضل النتائج الممكنة.

السيناريو الأول: نجاح شامل للعدالة الانتقالية
  • الوصف: تنفيذ عملية عدالة انتقالية كاملة وفق المعايير الدولية، تشمل المحاسبة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، مع مشاركة شاملة لجميع الأطراف والضحايا دون تمييز.
  • فرص التحقق: ضعيفة إلى متوسطة (20–30%)، نتيجة هشاشة السلطة الانتقالية واستمرار الانتهاكات.
  • النتائج المحتملة:
    • استعادة الثقة المجتمعية.
    • بناء دولة قانون مستقرة.
    • تقليص احتمالات الانتقام والعنف المتجدد.
  • الآثار بعيدة المدى:
    • تعزيز الهوية الوطنية الجامعة.
    • تسريع عملية إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات الدولية.
السيناريو الثاني: عدالة جزئية أو انتقائية (عدالة المنتصر)
  • الوصف: تطبيق العدالة على خصوم السلطة الانتقالية فقط، مع تبرير أو تجاهل الانتهاكات التي ارتكبتها أطراف مرتبطة بالسلطة الجديدة.
  • فرص التحقق: مرتفعة (50–60%)، في ظل السيطرة العسكرية والسياسية لطرف واحد على المشهد الوطني.
  • النتائج المحتملة:
    • تكريس مشاعر الظلم والاستقطاب.
    • تهديد بتحول العدالة إلى أداة انتقام سياسي.
  • الآثار بعيدة المدى:
    • احتمالية تجدد العنف الأهلي.
    • هشاشة في الاستقرار المؤسسي والاجتماعي.
    • استمرار أزمة الثقة في الدولة ومؤسساتها.
السيناريو الثالث: فشل كامل لمسار العدالة الانتقالية
  • الوصف: غياب أي آليات فعّالة للمساءلة، كشف الحقيقة، أو جبر الضرر، وعودة تدريجية إلى أنماط الاستبداد تحت غطاء ديمقراطي شكلي.
  • فرص التحقق: متوسطة (30–40%)، إذا استمر الانقسام الداخلي والفوضى، وتعمقت التدخلات الإقليمية والدولية.
  • النتائج المحتملة:
    • استمرار ثقافة الإفلات من العقاب.
    • تزايد التفكك الاجتماعي.
    • تهديد دائم بانفجار العنف أو الانقسامات الحادة.
  • الآثار بعيدة المدى:
    • نشوء دولة فاشلة.
    • استحالة بناء عقد اجتماعي وطني جديد.
    • حرب أهلية وانقسامات بينية مع استمرار للانتهاكات.

العدالة الانتقالية في سوريا تقف اليوم على مفترق طرق. نجاح هذا المسار ليس حتمياً، كما أن فشله ليس قدَرا لا يُرد. ما بين سيناريو النجاح الكامل والفشل الكامل، تمتد مسارات معقدة ومتشابكة. إن قراءة هذه السيناريوهات ليست درساً نظرياً، كما أنها ليست تنبؤات لمسارات محتملة فقط، بل هي دعوة للفعل. الفعل الذي يختار المسار الأعدل، لا الأسهل.

8. خاتمة وتوصيات

استعرض هذا الكتيّب مفهوم العدالة الانتقالية عبر محاور أساسية شملت مرتكزاتها النظرية، التجارب الدولية الملهمة، خصوصية السياق السوري، وتحدياته، وأسئلته، والسيناريوهات المحتملة لمسار العدالة. ومن خلال هذا العرض، تبرز قناعة راسخة بأن العدالة الانتقالية ليست حدثا أو لحظة، بل عملية طويلة ومعقّدة تتطلب توافر إرادة سياسية، مشاركة شعبية، وبيئة قانونية ضامنة. إن إنجاح مسار العدالة الانتقالية في سوريا، يتطلب صياغة خارطة طريق وطنية، ومقاربة متعددة الأبعاد تجمع بين الإصلاحات الدستورية، وبناء مؤسسات مستقلة، وإشراك الفاعلين المجتمعيين، ضمن رؤية وطنية غير إقصائية جامعة. وفيما يلي أبرز التوصيات:

  1. تضمين مبادئ العدالة الانتقالية في النص الدستوري
    يجب أن يتضمن الدستور السوري القادم نصوصا صريحة تُكرّس العدالة الانتقالية كالتزام قانوني دائم، بما يشمل المحاسبة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، وضمان عدم التكرار. هذا التضمين يحول العدالة من خيار سياسي إلى حق دستوري يُحصّنها من التراجع.
  2. تعزيز صلاحيات الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية واستقلالها
    • توسيع عضويتها لتشمل ممثلين عن الضحايا من مختلف المناطق والانتماءات، وخبراء من المجتمع المدني.
    • ضمان استقلالها القانوني والمالي والتنظيمي، من خلال نصوص تشريعية وآليات رقابة مستقلة.
    • توسيع ولايتها لتشمل تحليل أنماط الانتهاكات، وتقديم توصيات ملزمة للجهات القضائية والتنفيذية.
  1. تبنّي مقاربة شاملة للعدالة الانتقالية


تعتمد على التكامل بين المساءلة، كشف الحقيقة، جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، بعيدا عن الانتقائية أو التسييس.

  1. ضمان استقلال القضاء في المرحلة الانتقالية


بصفته الضامن الأول لمحاسبة نزيهة وشاملة، عبر إعادة هيكلة مؤسساته، وتحصينه من التدخلات السياسية والعسكرية.

  1. وضع استراتيجية وطنية متكاملة لجبر الضرر والتنمية


تراعي التنوع المجتمعي والثقافي، وتدمج البعد النفسي والاجتماعي، مع ضمان مشاركة الضحايا في تحديد أولوياتها.

  1. الاستفادة المدروسة من التجارب الدولية


عبر تفادي أخطائها وتكييف أدواتها مع الواقع السوري، دون اللجوء إلى نماذج مستنسخة أو معزولة عن السياق المحلي.

  1. تمكين المجتمع المدني بوصفه شريكاً محورياً


عبر تقديم الدعم الفني والتمويلي، وفتح المجال أمامه لمراقبة الأداء، والتفاعل مع الضحايا، وصون الذاكرة الجمعية.

  1. توثيق الانتهاكات الجارية خلال المرحلة الانتقالية


لضمان عدم الإفلات من العقاب، وتوفير قاعدة أدلة لأي محاسبة مستقبلية، وترسيخ مبدأ عدم التكرار.
9. تطوير آلية قانونية ودبلوماسية لملاحقة المسؤولين الفارّين خارج البلاد

في النهاية، العدالة التي تُبنى بالشراكة، وتُصاغ بلغة الاعتراف والمسؤولية والتطلّع نحو المستقبل، هي أساسٌ لسلام طويل الأمد، ومجتمع أكثر إنصافا وكرامة.


المراجع

مراجع باللغة الإنجليزية
  • Hayner, Priscilla B. (2011). Unspeakable Truths: Transitional Justice and the Challenge of Truth Commissions (2nd ed.). Routledge.
  • Gready, Paul & Robins, Simon (2020). From Transitional to Transformative Justice: A New Agenda for Practice. Cambridge University Press.
  • Nagel, Mechthild (2021). “Transitional Justice in Rwanda and South Africa.” In The Routledge Handbook of Critical Criminology.
  • Stern, Steve J. (2006). Battling for Hearts and Minds: Memory Struggles in Pinochet’s Chile, 1973–1988. Duke University Press.
  • Matebesi, Sethulego (2021). Transitional Justice in South Africa. Nomos Verlag.
  • Rojas, Hugo et al. (2022). Transitional Justice in Established Democracies. Latin American Legal Studies.

مراجع باللغة العربية
  • المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ)، الموقع الرسمي: https://www.ictj.org/ar
  • هيئة الإنصاف والمصالحة (2005). التقرير الختامي. المملكة المغربية.
  • اليوم التالي (2015). مدخل إلى العدالة الانتقالية في سوريا.
  • دولتي (2017). العدالة الانتقالية من منظور شبابي.
  • الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR). تقارير سنوية حول المعتقلين والمفقودين (2011–2023).
  • اللجنة الدولية للصليب الأحمر. القانون الدولي الإنساني وتحديات العدالة في النزاعات المسلحة. جنيف.

 تقارير حقوقية دولية
  • Amnesty International (2022). Syria: Mapping Human Rights Violations and Accountability Gaps.
  • Human Rights Watch (2012). Syria’s Torture Archipelago: Detention and Abuse in the Intelligence Service
اترك تعليق