المرأة العربية: من حركات التحرر إلى العالم الرقمي

كثيرات هنّ النساء اللواتي تبنين مناصرة قضايا  المرأة العربية في العصر الحديث، إيماناً منهن بحق مناصفة الرجل مجالات الحياة بدلاً عن التبعية التي تقوقعن فيها نتيجة طيف من العوامل الدينية والاجتماعية والاقتصادية، و رغم دفعهن أثماناً باهظة، إلا أنهنّ أحدثن فروقا واضحة انعكست على واقع المرأة العربية في عدة مجالات كان أهمها التعليم وحق التمثيل السياسي وغيرها من المجالات.

تلك المعارك التي بدأت مع مطلع القرن الفائت، وإن أحدثت في الجدار فجوة، إلا أنها لم تكن تتسع لخروج حواء من جلباب آدم، حيث قوبلت الحركات النسوية في المجتمعات العربية بكثير من الرفض سببه تسرب الخوف الى السلطة الأبوية من خروج المرأة ( الابنة والأخت والزوجة) عن الطاعة والمطالبة بحقوقهن وحرياتهن المسلوبة.

 ولم تستطع حتى الأصوات الإصلاحية البارزة التي نادت بالعدالة والمساواة، الخروج عن الذهنية الذكورية التي تحجر المرأة في الحيز الخاص داخل البيت والأسرة، فيذكر عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد- 1902) الذي يُعد من أوائل الكتب المستنيرة في زمنه، أن النساء “اقتسمن  مع الذكور أعمال الحياة قسمةً ضَيزى بدعوى الضعف ” و الضيزى في معناها المعجمي هي القسمة المنافية للحق، أو الظالمة، أي أن الكواكبي يرى مناصفة المرأة للرجل في الحياة هو ليس من حقوقها، رغم أنه كان قد دعا في كتابه (أم القرى- 1892)، إلا أن ذلك مرده إلى أن سبب جهلهن -بحسب رأيه- هو أحد أسباب الانحلال، داعياً بالحجب والحجر الشرعيين للنساء في البيوت لإغلاق باب الفجور وإفساد الحياة الشريفة.

هدى شعرواي 1879-1942

المرأة بين الحاضر والأمس

إن التطور ومتطلبات الحداثة  لم تكن لترضى ببقاء تلك الأبواب موصدة، إذ بدأت تتسرب شذرات الحضارة الى داخل الأسر العربية خاصة في ظل تواجد الانتداب الفرنسي و البريطاني على معظم الدول العربية، الذي وإن كان في جانب من جوانبه مظلماً، فقد كان في الجانب الآخر يحمل مفاهيم حداثوية أفرزتها حركات التحرر النسوية في أوروبا.

 فشهد مطلع القرن العشرين تصاعداً في حركة تحرر المرأة العربية، وبدأت تظهر المنتديات والجمعيات النسائية التي تطالب بمشاركة النساء في الحياة العامة والحياة السياسية، كتأسيس جمعية الاتحاد النسائي عام 1923 في مصر على يد هدى شعراوي، التي قادت أول مظاهرة نسائية في العالم العربي ضد الانتداب البريطاني عام 1919 و ذلك بعد انشقاقها عن حزب الوفد احتجاجا على عدم إشراك سعد زغلول المرأة بالهيئة البرلمانية بعد الثورة، كما أسست السورية ماري العجمي عام 1933 في دمشق الاتحاد النسائي العربي السوري والذي ضم عشرين جمعية نسائية آنذاك .

ما أكسب المرأة الشجاعة والجرأة للولوج في الطرق الوعرة، لنشهد بزوغ عدد من الأسماء النسوية في عالم السياسة والاقتصاد والفن والتعليم ومختلف مجالات الحياة، من اللواتي استطعن كسر الصورة النمطية عن المرأة العربية، وتحدين المجتمع السلطوي الذكوري الذي عمل على تشييء المرأة واعتبارها امتداداً لمكليات العائلة، وكرس الصورة النمطية التي تعتبرها أقل شأنا وأقل قدرة من الرجل، ومن أمثال تلك النسويات الرائدات هند نوفل ومي زيادة ونازل العابد، وأيضا د. نوال السعدواي التي كانت تعبر عن نفسها بالقول ” أنا بنت الله و تفكيري حر”  لتقابل بالسجن و النفي والاتهام بالزندقة والإلحاد .

صورة المرأة في العالم الرقمي

 اليوم وبعد عقود من النضال المستميت لنساء ورجال آمنوا أن الحرية و العدالة تبدأ من حرية المرأة والمساواة الكاملة على أساس المواطنة، نشهد عصراً جديداً مختلف الأدوات عن سابقيه، هو عصر ثورة المعلومات و العالم الرقمي، حيث باتت فرص الجميع متساوية ضمن  الفضاء العام  في الحصول على المعلومة والتعبير عنها في عالم مفتوح الخيارات ينطوي على الخطورة بقدر ما ينطوي على الفائدة، لكن ما هي صورة المرأة في هذا العالم الافتراضي، وهل حقا كانت ثورة المعلومات حليفةً لها في نيل حقوقها  ومنحها القدرة لتتشارك الحياة العامة مناصفة مع الرجل؟

في الواقع لا أحد ينكر فضل الإعلام الحديث والسوشيال ميديا في مناصرة قضايا المرأة من خلال حملات الحشد الداعمة لحقوق المرأة في مجالات شتى كقضية التعنيف الأسري التي تتسبب في بعض الحالات في وفاة  نساء وفتيات على أيدي أزواجهن أو ذويهن الذكور، أو قضية الفتيات الأزيديات اللواتي تعرضن للاغتصاب على يد مقاتلي داع.ش، وكذلك جرائم الشرف التي لا تزال ترتفع وتيرتها، أو قضايا الميراث و الوصاية الأبوية وغيرها من القضايا النسوية في المجتمعات العربية عامة.

 وقد وجدت الكثير من النساء العربيات في الفضاء الرقمي منصة متاحة وفرصة  للتعبير عن ومخاوفهنّ وعن آراءهن وطموحاتهن، وأيضا للتنديد  بالاضطهادات الممارسة ضدهن، كذلك ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في التسويق لمشاريعهن الصغيرة، لنشهد ولادة صانعات محتوى هادف يسعى إلى حث النساء على تبني أحلامهن و السعي لتحقيقها.

ولكن في المقابل..

 فان لهذا العالم وجهه القبيح الذي  تملؤه  الانتهاكات والمحتويات الفارغة والتي ساهمت سياسة المنصات الاجتماعية كاليوتيوب و تيك توك وغيرها  في التسويق للمحتوى الخالي من أي مضمون كنوع من تعويم التفاهة واللامبالاة.

اذ أن  السياسة  التي تعمل وفقها شركات السوشال ميديا هي تثمين المحتوى بعدد المشاهدات فقط لا بقيمة المضمون، فعند بلوغ عدد المشاهدات حداً معيناً يتقاضى ناشر المحتوى أجراً يتزايد بشكل اطرادي مع زيادة عدد المشاهدات والمتابعين، و للأسف كان لصورة المرأة في هذه المحتويات النصيب الأكبر من حيث تكريس ذهنية نمطية تقوم على اختصارها في الشكل الجسدي والتركيز على ثيمة الإغراء، على حساب كينونتها كأنثى وفرد من المجتمع.

 وعند رصد المحتوى الأكثر متابعة والذي قد يحصد ملايين المشاهدات لاسيما في المجتمعات التي توارب خلف لثام الدين والعادات والتقاليد، سنجد أنه غالباً من النوع الذي يقدم المرأة كسلعة ومنتج.

ولتسليع المرأة عدة أشكال ووجوه، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثال: الإعلانات التجارية التي تسوق للمنتج – أيا تكن الشريحة المستهدفة منه –  من خلال عرضه بواسطة  نساء أو فتيات من مواصفات شكلية محددة، الأمر الذي يكرس تنميطاً لمعايير الجمال المصنع لا الطبيعي والتي انتشرت مؤخراً كالشفاه الممتلئة والأنوف الحادة، حتى باتت الفتيات تخضع لعمليات تجميلية بلغت حد الهوس لدى شريحة واسعة بهدف الوصول إلى الصورة والنموذج المطلوب، حتى أصبحن نسخاً مكررة متشابهات الملامح تغيب عنها الميزات الفردية الطبيعية، وقد يصل الهوس إلى حد حدوث  تشوهات شكلية غالباً ما تتعرض الفتاة بسببه للتنمر الإلكتروني، وتتلقى كما هائلاً من الردود السلبية تودي بها في دائرة الاكتئاب المزمن، وقد تصل إلى الانتحار.

كذلك ساهم العالم الافتراضي بتكاثر شبكات الابتزاز الإلكتروني الذي وقعت ضحيته الكثير من الفتيات لاسيما ما دون العشرين عاما، حيث تشير الاحصائيات الحديثة الى تزايد هذه الجريمة والتي تشكل خطرا حقيقيا و ذلك لأسباب عدة : السبب الأول هو أن الجرائم الالكترونية قلما تترك خلفها دليلا يوقع المبتز في قبضة القانون، أما السبب الثاني هو تعدي الجرائم الحدود الجغرافية للبلد، مما يصعب مسألة الملاحقة القضائية، أما السبب الثالث و الأهم هو إيثار الفتيات الصمت و الاذعان خوفاً من بطش الأهل والمجتمع حيث يغيب القانون وتغيب التوعية الحقوقية، بل تتحمل الفتاة وحدها التبعات النفسية التي قد تصل بها في بعض الأحيان إلى الانتحار كما حدث للفتاة المصرية( بسنت شلبي)

ولا ننسى قضية الناشطة المصرية سارة حجازي التي أقدمت على الانتحار بعد حملة التنمر الكبيرة التي تعرضت لها على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب ميولها الجنسية  

الناشطة سارة حجازي 1989 -2020

في الواقع رغم التقدم الهائل الذي أحرزته المرأة العربية في مسيرة نضالاتها الحقوقية والمكتسبات التي حصلت عليها من خلال التعديلات التي طرأت على بعض القوانين الناظمة لقضايا المرأة، إلا أنها تبقى إلى اليوم رهن الكثير من الانتهاكات، ولا تملك مساحة آمنة لا في الحياة العامة ولا في الواقع الافتراضي، ولا يزال القانون عاجزاً عن حمايتها لبقاء عدد من القوانين التمييزية قائماً ومعمولاً بها إلى اليوم، فضلاً عن وجود فجوة حقيقية يفرضها السياق الثقافي للمجتمعات الأبوية بين النص النظري للقوانين، وبين التطبيق العملي الذي يمكنها من الوصول إلى حقوقها الأساسية.

اترك تعليق