حاكِم جنون ابن الهيثم

قراءة في رواية حاكم جنون ابن الهيثم للكاتب المصري يوسف زيدان

اكرام حاطوم

سأبدأ قراءتي بمقطع من قصة ” حي بن يقظان “

(لقد أوصاهم حيِ في النهاية بملازمة ما هم عليه من حدود الشرع والأعمال الظاهرة، وقلة الخوض فيما لا يعنيهم، وأيقن هو واسال أن هذه الفئة (العامة) إن رُفعت لدرجة الاستبصار، اختلّ ما هم عليه وانكسرت وساءت عاقبتهم، فحثّهم على الاستمساك بما عندهم، فإن وافاهم اليقين كانوا من أصحاب اليمين، أما درجات السابقين فهي للواصلين الذين ارتفعوا من الظاهر إلى الباطن، والكل ميَسّر لما خُلق له، وفي الختام عاد كل من حيِ واسال إلى جزيرة الوقواق وعبدا الله بتلك الجزيرة حتى آتاهما اليقين).

الروائي يوسف زيدان

ربما هذا هو المنهج الذي اتبعه المفكر يوسف زيدان في روايته، إذ اختار أسلوب الحذر من وعلى جماعة الحاكم وكشف عقيدتهم في عصرنا العربي الحاضر الذي مازال يحتدم فيه الصراع بين العقائد والأديان.

حاول الكاتب في الفصل الأول من الرواية الإشارة ولو من بعيد عن فكر جماعة الحاكم، الذين اتخذوا منهج العقل والبحث عن المعرفة منذ بدء الخليقة، حيث انتقلت هذه المعرفة شفهياً من جيل إلى جيل، إلى أن استطاع الإنسان التعبير عنها بالنقوش ومن ثم الكتابة (مذهب غنوصي).

نلاحظ هنا أن الكاتب حتى الأسماء لم يختارها عبثاً، ” أمنية ” تسعى إلى تحقيق أمنيتها بدراسة الأنثروبولوجيا وفلسفة الحضارات، أما “راضي” فهو راضٍ بالمعرفة التي وصلت إليه عن طريق النقل.

بحبكة بسيطة انتقل بنا الكاتب إلى الفصل الثاني، من لغة الحاضر السردية والسلسة الفصيحة إلى لغة الزمن الفاطمي الجزلة المليئة بالمفردات والجمل القوية التي لا ينافسه فيها كاتب.

فدخل بنا الدولة الفاطمية من أبوابها الواسعة، منذ دخول الفاطميين إلى مصر إلى أن وصل بنا إلى الشخصيات الأساسية للرواية، والأكثر غموضاً وجدلاً في التأريخ العربي الإسلامي 

“ست المُلك” و”الحاكم بأمر الله”.

الحسن ابن الهيثم

وبسبب عدم وجود مصادر موثقة لتلك الفترة التاريخية لقيام الأيوبيّين بحرق كل تأريخ الدولة الفاطمية وبالذات ما يخص فترة حكم الحاكم بأمر الله، لجأ الكاتب إلى أسلوب العرض والتحليل لكل ما وصلنا من أحداث وصدامات وصراعات مذهبية وفكرية، وأطال السرد وأكثر من الشخصيات الفرعية وفَصّل في أفعال الشخصيات الأساسية وترك الحكم والاستنتاج للقارئ. 

هل كان فعلا الحاكم غريب الأطوار ومجنوناً وشرهاً للدماء، أم أنه ظلم من التاريخ؟

تناول الكاتب شخصية(منصور) الحاكم منذ طفولته ونشأته الأولى التي أشرفت عليها أخته (ست المُلك) حيث وصفها الكاتب بالخطيرة! فلماذا هي خطيرة؟

هل لأنها امتلكت الصفات الأنثوية من الحكمة وحب المعرفة وقوة الشخصية وجمال الشكل والمظهر في عصر فَقَدت فيه الأنوثة قيمتها الأصيلة، أم لسبب أخر احتفظ فيه الكاتب سراً؟

كان منصور (طفلاً ذكياً شغوفاً بالعلوم وقراءة الكتب وتحصيل المعارف وخجولاً لا متحفظاً).

أُّنزِلَ من أعالي الجميزة، التي كان تسلُقها لعبته المفضلة ليلبس عمامة الحكم المرصعة بالجواهر، وهو بعمر أحد عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام بعد وفاة والده (العزيز بالله)، واستلم حكم دولة متسعة الأطراف يتربّص بها الأعداء من الخارج، وتحتدم بها الصراعات الدينية والعقائدية والفكرية، ويحيط به رجال السياسة الطامعين بالحكم، ذلك غير ما تفرضه الطبيعة من تجفاف وفيضانات.

في السنوات الأولى من حكمه وبمساعدة أخته “الخطيرة” تجاوز قتالاً وحروباً بين جند الدولة والمنشقين عنها في الشام، ثم استتب الحال واستقرت الأمور بيد الحاكم وامتد سلطانه واتسع،

لكن ذلك لم يدم طويلاً.

كان (منصور) أقرب للزهد فلم يذكر عنه أنه عاش حياة المجون والترف التي عاشها أمراء تلك الفترة، فَحُرِمَ كاتبنا من إغراقنا بتفاصيل علاقاته النسائية، لكن شدة الصراعات المذهبية وكثرة الفاسدين جعلت منه شخصية متناقضة يفتك بالفاسدين والمتربصين بحكمه بأشد طرق القتل ويُصدر تشريعات غريبة علَّه يستطيع ضبط المجتمع ولكن وبالرغم من شدة حزمه فشل واختلف مع (ست الملك).

كانت تلك الفترة زاخرة بالنابغين من فلاسفة وعلماء عرب ومسلمين، واجتهد بعضهم في ترجمة الفلسفة اليونانية القديمة، وبسبب شغف الحاكم بالمعرفة والعلم قام بتأسيس دار الحكمة التي ضمّت آلاف الكتب وحاول استقطاب العلماء والفلاسفة للتدريس فيها لمن يحب تحصيل المعارف المتنوعة.

نهاراً هو (الحاكم بأمر الله) الذي يقتل ويسفك الدماء ويصدر التشريعات، وليلاً يعود (منصور الزاهد) الذي يرتدي الكتان والفوطة بدل العمامة، ويصعد على ظهر حمار إلى جبل المقطم ومنه إلى الأهرامات ليلتقي في ظلالها وتحت سحر الحكمة القديمة بإخوان الصفا لتحصيل المعارف ومناقشة ما توصّلوا إليه من حكمة القدماء.

في الفصل الثالث نلتقي بشخصية العالم الجليل ابن الهيثم، الذي سمع الحاكم عن لسانه قوله “لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان”، فأرسل له واستقدمه إلى مصر وطلب من صديق طفولته وكاتب المخطوطة (مطيع) ملازمته وأشار إليه بزيارة دار الحكمة للاطلاع على مؤلفات (ابن الهيثم)، وبدوره عرض لنا (مطيع) إنجازات (ابن الهيثم) في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة واتِّباعه للمنهج العلمي في أبحاثه وتجاربه.

عند وصول (ابن الهيثم) الى مصر استقبله (الحاكم) استقبال الأمراء وطلب من (مطيع) مرافقته في رحلة بحثية إلى الموقع المقترح لإقامة السد في أسوان وإمداده بكل ما يحتاج إليه.

تنقّل الكاتب في هذا الأثناء بين ذهول (ابن الهيثم) بهندسة الحضارة المصرية ورموزها وحكمتها، ودراساته لمقياس النيل والرسومات الهندسية للسد المنتظر، وبين الفساد والصراعات والانشقاقات في الدولة الفاطمية وشدة بطش الحاكم وخلافاته مع (ست الملك) 

وجد (ابن الهيثم) أن الموقع المناسب لإقامة السد لم يكن تحت سيطرة الدولة الفاطمية ولا ينفع إقامته بموقع آخر، وعادا من رحلتهما خائبيَن وخائفيَن من ردة فعل (الحاكم)، وعلى إثر ذلك ادّعى عالِمُنا هنا الجنون، فأمر (الحاكم) بسجنه تحت رعاية صديقه (مطيع) وربما فرض عليه الإقامة الجبرية لحمايته من الأهوال التي حصلت في تلك الفترة الدامية فأبدع لنا العالم الجليل بأبحاث كثيرة ورسائل فلسفية وبحوث أهمها كان كتاب “المناظر” وهو كتاب مهم في تاريخ تطور علم البصريات حيث وضع أسس البصريات الفيزيائية الحديثة بعد أن غيّر جذرياً طريقة فهم الضوء ورؤية الأشياء وشكّل هذا الكتاب اللبنة الأساسية لاختراع الكاميرا.

لم يُفَصّل الكاتب في فكر جماعة الحاكم وذكر من دعاتهم (نشتَكين الدرزي) الخائن للدعوة بسبب تأليهه لشخص (الحاكم) ويعتقد الكثيرون أن الموحّدين الدروز سمّوا كذلك نسبة لـ(نشتَكين الدرزي) لكن العارف يعلم أنه كنايةً عن محبتهم لـ(درز العقل بالمعارف).

في عام أربع مائة وأحد عشر وبعد أن تلاحقت بالبلاد طواحن الأحوال خرج (الحاكم) في جوف الليل متعجّلاً بلا حرّاس ولم يعد، فقيل إنه قُتِل وقيل!! وقيل!! وقيل!! ولربما قرر بنفسه اعتزال الحكم المشؤوم والعيش متخفياً زاهداً أو الانضمام إلى جماعة إخوان الصفا والتخفّي بينهم ولا يعلم الحقيقة إلا الله.

لنعد إلى (يوسف زيدان) الذي أبدع في رسم شخصيات الرواية الفرعية والأساسية وأبدع باللغة والتنقّل بها بين لغة الحاضر ولغة الماضي، إضافة لاستخدام حبكة الرواية للمقارنة بين الحاضر والماضي، وعلاقة رجال الدين والمفكرين بالسياسة والتعصب الديني، والذي مازلنا نعاني منه إلى وقتنا الحاضر ومن خلال عرضه لشخصية (الحاكم) اعتمد على مقولة ابن خلدون (لا بدّ من اعمال العقل في الخبر) ليضعنا أمام التأريخ المصاب بالفصام فهل يمكن أن نقول عمّن أسس للعلم والمعرفة واهتم بالنابغين والعلماء وحارب التعصب المذهبي بأنه مجنون وغريب الأطوار، ومن حرق الكتب وقتل الفلاسفة والنابغين بأنه الناصر والفاتح وبطل الأبطال؟!

عمد الكاتب إلى الإضاءة على إنجازات العلماء خلال العصر الإسلامي وإبداعاتهم رغم معاناتهم من بطش الحكّام ومحاربة رجال الدين لهم، كـ (ابن سينا) في روايته “فردقان” و(ابن الهيثم) في روايته هذه. ولو تمعّنا بالتاريخ جيداً لأدركنا أن العصر الإسلامي قديماً كان الأثري معرفياً وعلمياً وفلسفياً وعليه اعتمدت الحضارة الغربية لتصل إلى ما وصلت إليه الآن من تطوّر وتقدّم، في المقابل، لا زلنا نحن العرب نتخذ المنهج نفسه من محاربة للعلم والتفكير ونعمل على تعطيل العقل والثقافة والبحث المعرفي لترسيخ الجهل بين الناس وبقاء سيطرة رجال الدين والحكّام.

أخيراً لا يسعني إلا القول:

شكراً يوسف زيدان

شكراً لأنك تحاول تصحيح التاريخ وإعادة تفعيل العقول العربية في محاولة منك لتنويرنا بالحقائق التاريخية وحثّنا على البحث والمعرفة على أمل أن نستيقظ من غفوتنا قريباً.

اترك تعليق