أوائل العام ١٩٦٥ دخل رسول إلى مكتب مدير التربية الشاب في مدينة “السويداء” وطلب منه السفر إلى “دمشق” بأسرع وقت للقاء رئيس الدولة،من دون أن يخبره هذا الرسول بأية تفاصيل أخرى،
في “دمشق” اكتشف “رضوان رضوان(1931 – 2015) أن الرئاسة قد اختارته ليكون محافظاً لإحدى المحافظات السورية؛ وعليه أن يختار المحافظة التي يرغب العمل بها، يقول رضوان رضوان :
“خيّرني الرئيس أمين الحافظ بين خمس محافظات “درعا، الحسكة، وحلب، واللاذقية، وإدلب”،وصار يرغبني بمحافظة “حلب”، وعرض علي المساعدة، قلت له: “أتريدني محافظاً صورة أم فعلاً” ، أجابني: “طبعاً فعالاً” قلت له: “أريد درعا.”
ولحسن حظه كانت “درعا” التي أحبها منذ أن درّس فيها اللغة العربيةبين عامي (١٩٥٩-١٩٦٣) من ضمن الخيارات؛لذلك اختارها دون تردد رغم نصيحة المستشارين أن يختار غيرها، لكنه أصرّ قائلاً: «إن كنتم تريدونني محافظاً ناجحاً أقدم خدمة للناس لا أريد سوى “درعا”». وكان له ما أراد، فذهب الرجل ليباشر مهمته الجديدة بطاقة هائلة.
لم يكن اختياره هذا من غير دلالة، فهي المحافظة التي أحبها وأحبته ، والتي نفذ طلابها إضرابا من أجله عام ١٩٦٢
عندما كان رضوان يقود مظاهرة مع طلابه في درعا في إحدى المناسبات القومية. الأمر الذي أزعج السلطات حينها ، فقامت بمعاقبته و نقله بشكل تأديبي إلى الحسكة ، فكان أن أضرب طلاب جميع المدارس الثانوية والإعدادية من غباغب وحتى بصرى، ما أجبر مديرية التربية بعد عدة أيام على الانصياع و إعادته بطائرة إلى عمله .
..
يقول الأستاذ “عثمان حمزة” الذي وثق جزءاً مهماً من حياة “رضوان”: «مرّت الأيام بسرعة، وكل يوم يمرّ يزيده تعلقاً بتلك المحافظة، ويزيد أهل درعا احتراماً له، إلى أن كان ذلك اليوم الذي زاره به دون سابق إنذار رئيس الدولة الفريق “أمين الحافظ” الذي قدم للاستراحة من العمل. وبعد الغداء مع العائلة؛ سأل الرئيس محافظه عن رجل يدعى “عبد القادر أبا زيد”، فأجابه ان الرجل محترم وخلوق جداً، وعلاقته به جيدة، وسوف يرسل من يدعوه للحضور، فقال له الرئيس (لا سأذهب وإياك لزيارته فإن لهذا الرجل ديناً علينا».
روي عن الرئيس “أمين الحافظ (أبو عبدو) أن أياماً عصيبة مرت بها سورية أثناء الحكم الانقلابي للرئيس “أديب الشيشكلي” فانقسمت آراء الناس وتباينت مواقفهم، والتبست عليهم أمور كثيرة، وكان “أمين الحافظ” حينها ضابطاً في “درعا” يقود فصيل الفرسان. وذات يوم كلفوه بقمع مظاهرة يقودها “عبد القادر حشيش” تحيّي وتمجّد “سلطان الأطرش” وتبرز نضاله ورفاقه في طرد المستعمر من “سوريا”، وحين دخل المظاهرة انضم إليها وأصبح بذلك متمرداً على النظام، وبعد انتهاء المظاهرة لم يجد من يلجأ إليه سوى بيت الشيخ “عبد القادر أبا زيد” الذي حماه لحين انتهاء حكم “الشيشكلي”، ولذلك طلب من “رضوان” زيارته، حيث قال الرئيس لمضيفه: «أنت اليوم أمام رئيس الدولة والمحافظ؛ وبإمكانك أن تطلب وتتمنى لك ولعشيرتك ومحافظتك وطلبك مجاب سلفاً». لم يفكر الرجل طويلاً بل أجاب على الفور: «أريدكم أن تبقوا لنا “رضوان رضوان” محافظاً لدرعا».لا نريد غير ذلك.
حافظ “رضوان رضوان” على إنسانيته، وتابع طريقه بعيداً عن الروتين والإجراءات المعيقة للتطور، وجاهد من خلال منصبه كي يساعد الأهالي على الاستمرار وتأمين حياة كريمة للجميع؛ وكونه مؤتمن على ذلك، ومن صلب مهامه، فبنى طوال تواجده في درعا علاقات اجتماعية واسعة، وزرع الحب في كل مكان وصله، وغادر منصبه دون أن يحصل على امتياز واحد، غير الاحترام وتعميق أواصر الصداقة مع سكان المحافظة ككل، وقال عن طبيعة عمله: «عندما يحافظ المرء على إنسانيته فلن يكون غريباً عمن حوله. فأنا عندما كنت محافظاً كنت أمارس عملي بما يمليه علي ضميري؛ ووفق روح القانون، أما في البيت فيمكن أن تجدني ألعب مع أولادي وأنبطح معهم على الأرض ويتقافزون فوقي، وإن لم أفعل ذلك لفقدت إنسانيتي، وسيكرهني أولادي وينفرون مني، فالعمل يختلف عن البيت وعن المضافة، ولا يجوز أن نخلط بينهم. ومن تعالى على الناس حتى ولو كانوا أولاده سينفرون منه».
ولا ينسى أهالي السهل قصة أحد أبناء مدينة درعا الذي كان يقود سيارة نقل خارجي كبيرة؛ وابتلي بدهس مواطن أردني، وسارع لتسليم نفسه للشرطة كون الحادث غير مقصود وكل إنسان معرض أن يقع به، ولكن أهل الرجل الأردني ادعوا أن الحادث كان مقصوداً، وحاول أهل السائق حل الموضوع عشائرياً فكان ذلك صعباً لذلك اضطروا للاستعانة بمحافظ درعا، فاستجاب لهم واتصل رسمياً بمحافظ “إربد”، ورتبوا لقاء داخل الأردن مع أهل الرجل المتوفى وسماع مطالبهم لحل المشكلة، وعندما تم الاجتماع؛ تكلم محافظ “إربد” وأبلغ أهل الفقيد بأن أهل غريمهم يعترفون بخطأ ابنهم وهم مستعدون لتلبية طلباتهم وتعويضهم بما يطلبون حسب العادات العشائرية المتبعة.
لكن كبير العشيرة الأردنية أعلن أن دية ابنهم ستكون مبلغاً كبيراً لتعادل ضخامة الخطأ الذي ارتكبه، وهو يفوق بأضعاف مبالغ الديات التي كانت تدفع تلك الأيام. فرد أحد المكلفين باسم أهل السائق إن هذا المبلغ غير متوفر حالياً، وجمعه يحتاج لبعض الوقت، وطلب مهلة تمكنهم من جمع المبلغ والعودة لدفعه وإقامة الصلح، فرد الزعيم الأردني متسائلاً ومن يكفلكم بذلك؟. وهنا تدخل محافظ درعا وقال: أنا أكفلهم. فقال الشيخ الأردني: ومن أنت ؟ فقال الأستاذ “رضوان”: أنا محافظ “درعا”. ورد الأردني: أعلم أنك محافظ درعا، ولكننا نبحث عن حل عشائري فمن أي عشيرة أنت؟ فرد من فوره: أنا “رضوان رضوان” من جبل العرب. وهنا قال الأردني: ما دمت من جبل “سلطان الأطرش” فإننا نقبل كفالتك.
وانصرف الجمع ليعودوا في الموعد المحدد لاجتماع الصلح؛ ومعهم المبلغ المطلوب لدفع الدية، فخاطبهم شيخ العشيرة الأردنية بأنهم كانوا واثقين من التزام المحافظ بوعده، وإكراما له تتنازل عشيرة الفقيد عن الدية (بالتشويم)، ويعتبرون الحادث قضاء وقدر.
مات “الأستاذ” -كما يطلق عليه أهالي جبل العرب- عام 2015 بين أصدقائه ومحبيه، وعاش سنوات من المحرقة السورية يطالب بالمحافظة على الإرث المشترك بين السهل والجبل، لكن الغصة كانت تملأ روحه على وطن نهشه الغربان
ضياء الصحناوي