من العيش المشترك إلى التشارك الحر

اللوحة للفنان التشكيلي هيال ابو زيد


تشكّل العلاقة بين محافظتي درعا والسويداء، وسعي العقلاء الحثيث من كلا الطرفين لدرء الفتن التي حِيكت لهما خلال العشر سنوات الماضية نموذجاً سورياً مهماً في تغليب الجانب العقلاني لحلّ النزاعات المفتعلة أو التي تديرها المصالح، فالذاكرة والثقافة المشتركة اللتان تم التأسيس لهما عبر العيش المشترك والتعايش الاجتماعي، عملتا على الحدّ من انتشار النزاع وتطويق الفتنة التي أراد لها الكثيرون أن تشتعل، ولكن على الرغم من إحراز النجاح في الكثير من المواقع والمواقف، فإنّ ثقافة العيش المشترك لم تكن كافية لمنع الجفاء الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً بين المحافظتين، مما يدفعنا إلى التفكير مجدداً في الكثير من العوامل التي نعتقد أنها حواملٌ قويةٌ وكافيةٌ للحفاظ على السلم الأهلي والتماسك المجتمعي.
يفرّق المفكّر السوري “جاد الكريم الجباعي” في مقالة له “ضد العيش المشترك” بين “(المشاركة) مصدر الفعل شارك وبين (الاشتراك) مصدر الفعل اشترك، إذ الأولى تعني المشاركة في عمل يحتاج إلى إنجاز أو إلى إنشاء، كإنشاء شركة أو مؤسسة أو منظمة، فإنّ (الاشتراك) يعني المشاركة في عملٍ مُنجز أو مؤسسة قائمة، فالمشاركة تدلُّ على حالة ديناميكية حيوية (تفاعلية متحركة ومتغيرة)، بينما الاشتراك يدل على حالة استاتيكية، ساكنة، الأولى تنطوي على معاني الابتكار والخلق والإبداع، والثاني ينطوي على معنى الدوام والثبات والتكرار”.أما “على الصعيد المعياري: المعياران الرئيسان للمشاركة هم الإتقان والإنجاز أما المعيار الرئيس للاشتراك فهو الطاعة”.
إنّ الفروق التي حدّدها “الجباعي” ما بين المشاركة والاشتراك، شكّلت مدخله الرئيس لتفكيك مفهوم العيش المشترك، والتي سينبثق عنها فروق جديدة ما بين العيش المشترك والمواطنة، إذ يرى “الجباعي” ” أنّ الاشتراك في العيش واقعة طبيعية، بديهية، من معطيات الإدراك الحسي،(جميع الكائنات الحية تتعايش، أو تشترك في العيش.من حيث كونه رابطة طبيعية في ما بينها جميعاً)، بينما المواطنة ليست بدهية، وليست رابطة طبيعية، بل رابطة مدنية لم تنتج عن معطيات الإدراك الحسي، وكذلك الوطنية”؛ فالعيش المشترك كما يراه، يحيل على الحالة الطبيعية. أما المواطنة، فتحيل على الحالة المدنية، لهذا فإنّ “العيش المشترك يحيل على واقع ثابت، استاتيكي، أما المواطنة، فتحيل على واقع ديناميكي، هو ابتكار الوطن وإنتاج الوطنية وكسبها كل يوم”
فابتكار الوطن حسب “الجباعي” هو “المغزى الأعمق لمفهوم المواطنة(على وزن مشاركة)، فالمواطنة مشاركة حرّة ومبدعة في إنتاج الوطن وإنتاج الوطنية، وليست مجرد تعايش قد يكون على مضض، فقد ينجح العيش المشترك مع الحواجز والمتاريس، بينما المواطنة غير ممكنة مع الحواجز والمتاريس، كما أنّ التعايش ممكن في ظل الأنظمة ما قبل المدنية وما قبل الوطنية، كالعشائرية والعائلية والإثنية والسلطات المستبدة. بينما المواطنة المتساوية غير ممكنة في مثل هذه الشروط”.
العيش المشترك بما هو اشتراك بتعبير “الجباعي” لم يرقَ بين المحافظتين للتشارك الحرّ، لغياب دولة المواطنة، دولة القانون والعدالة والمساواة والحرية، فإذا كانت المشاركة الحرّة كما يرى “الجباعي” قائمة على تكافؤ المتشاركين والمتشاركات، وتساويهم في الحقوق، وتكافؤ الشروط وتكافؤ الفرص. وتقتضي سيادة القانون واستقلال القضاء، والتي تشكل بمجملها فضاء المشاركة المدنيّة، فإنّ هذا ما يفسر لماذا بقيت العلاقات علاقات أولية ما قبل مدنية ما بين المحافظتين وسائر المحافظات السورية.
على ضوء ما تقدّم ربما يمكننا أن نفهم، لماذا تمكنّ العيش المشترك المدعوم بالثقافة المشتركة أن يحدّ من النزاع بين المكونات الاجتماعية، لكنّه لم ينجح في تلافيه أو الوقوع فيه نجاحاً تاماً، فعلى أهميّة العيش المشترك والثقافة المشتركة في تشكيل نسيج المجتمع الأهلي، إلّا أنهما لم يرتقيا بالمجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني، ولكن على اعتبار أنّ المجتمع الأهلي يحمل في أحشائه جنين المجتمع المدني بتعبير “الجباعي”، فإنّ العشر سنوات الأخيرة على الرغم من مرارتها، هي فرصة لجميع المكونات السورية لإعادة قراءة وصياغة ما تم تغييبه قسراً، والسعي باتجاه عقدٍ اجتماعي ينظم جميع العلاقات على أساس المشاركة الحرّة، التي تُنتج بدورها أسس المواطنة والوطنيّة، وتجعل الاختلافات جزءاً بنائياً في المنظومة الوطنية.

ا

اترك تعليق