فروع التراث الغنائي في حوران.. جذور عميقة و إبداع مشترك

علياء الجابر

التراث ذاكرة لاوعينا، حكايا الجدّات ومشاعر الأسلاف، و صوت الماضي الذي يملأ المكان حولنا ويربط قلوبنا بجذورها البعيدة التي ماتزال تنمو ولم نزل نتعرف على أنفسنا من خلالها.

لطالما كان الشعر – ديوان العرب – وسيلة الناس الأساسية لتأريخ أيامهم ووصف مشاعرهم ورغم الفروق الشاسعة بين الشعر الفصيح والشعر العاميّ إلا أنه ما يزال يؤدي الوظيفة نفسها ولعلّ الأقرب إلى واقعنا اليوم هو الشعر الشعبي والذي يشكل معظم تراثنا الغنائي في سوريا عموماً وفي المنطقة الجنوبية خصوصاً
ولأن الغناء طريقة تعبير الإنسان منذ الأزل عن شتى انفعالاته المتناقضة كان أساسُ موسيقانا التراثية غنائياً مبنيّاً على الشعر الشعبي، حيث أن التراث الموسيقي في هذه المنطقة اقتصر على النوع الغنائي ولم يكن شائعاً استخدام الآلات أو بناء موسيقا آلية مؤلفة من لحن دون كلام رغم استخدام بعض الآلات كالطبول في درعا والربابة والمجوز والشبابة والدف أو الطبلة في كلٍّ من درعا والسويداء، إلا أنها كانت فقط لخدمة الغناء و كان غالبية الشعراء الشعبيين يعزفون الربابة التي كانت تتواجد بالأخص في السهرات والمضافات حيث كانت الربابة تعزف ألحاناً بسيطة لمرافقة القصيدة، بينما استُخدِم المجوز والطبل في الأعراس والمناسبات الصاخبة.
ونلاحظ في مناطق حوران السهل والجبل أن اللحن الغنائي كان عفو الخاطر صُنع بشكل بسيط بناءً على النص الشعري ويكاد لا يحيد تراث درعا والسويداء الغنائي عن مقامي البيات والراست اللذان يشبهان البيئة والطبيعة الجغرافية لتنوعهما ومرونة استخدامهما للتعبيرات الشعورية المختلفة، بينما نجد هذا التراث وعلى الرغم من تأثره باللهجة البدوية في كلا المنطقتين يتنوع من حيث اللغة والتقطيع الشعري والغرض مشكلاً فنوناً عديدة شديدة القرب من الحياة ببساطة وعمق في آن معاً، فقد كانوا يغنون في أفراحهم وأحزانهم وحروبهم وسهراتهم نوعا من الأغاني _ على اختلافها _ إلا أنها متشابهة وتحمل ذات الأوزان والمواضيع وباتت جزءاً رئيساً من هوية الجنوب التراثية، والتي نجد فيها عدداً من الصفات المشتركة مثل: خفة ورشاقة المفردات والجمل وغياب الخطابة مثل أغنية ( ل اكتب ورق وارسلّك)، فهي تتسم بالبساطة والعمق. كما نلمح فيها تكراراً لبعض المعاني وتقديم ما يجب تأخيره أو العكس، وتماثل التشابيه والمطالع والنهايات مثل أغنية ( محبوب قلبك بالهوى سميتني ومن بعد ما سميتني سميتني/لـ سلمان نفاع )، واستخدام الكناية والاستعارة والتورية والخروج عن البحور العروضية واختراع تنويعات لتفعيلات مغايرة، واعتمادهم على الوزن السماعي ونزوعهم إلى الرباعي بألوانه، واعتمادهم المشطور والمجزوء، ربما لسهولة تلحينه، أيضاً كثر لديهم الابتداء ب (يا) و (عا) وإنهاء الرباعيات بأحد حروف المد مثل أغنية ( على دلعونا )…
لكنّ مجمل نتاجهم كان مستملحاً للنفس ومشحوناً بمشاعر الناس وانفعالاتهم.
وتختلف منطقتي درعا والسويداء ببعض الفنون فثمة بعض الأنواع توجد في منطقة دون الأخرى كالهولية الموجودة في منطقة السويداء فقط مثل أغنية ( يللا روح ربيع الوادي فتّح) ، وقصيدة الفن الشائعة في السويداء قديماً وحديثاً والمطلوع مثل (ومنين ابدا يا قلبي) والتي تعد فناً حصرياً لهذه المنطقة رغم الاختلاف في أصلها فالبعض يقول أنها فن ناتج عن الموشحات الأندلسية حمله معهم سكان المنطقة حين أتوا إلى الجبل مثالها قصيدة ( رح غنيلك قصة فن )، وكذلك ثمة بعض الأغاني البدوية التي تشبه الدبكات الأردنية توجد في درعا فقط مثل أغنية ( مرعية يا البنت مرعية ) وأغنية ( من مفرق جاسم للصنمين ).
أما الفنون التراثية المشتركة بين درعا والسويداء فهي متداخلة وكثيرة كالتداخل الجغرافي بين المنطقتين الذي يكاد يكون توحُّداً مثل الهجيني والشروقي والحدا.
فنجد فن الهجيني المستوحى من سير الهجن ( الإبل) ويستمد اللحن والأوزان من إيقاع خطوات الإبل أثناء السفر إذ يشبه لحنه البطيء والممدود طول خطوات الجمل بل حتى الإبل ذاتها- يقال- تطرب لهذا اللحن وتتماهى مع إيقاعه ويرتكز الهجيني إلى ثلاثة بحور هي مجزوء البسيط ومجزوء الرمل والبسيط .
ويصنف إلى ثلاثة أنواع رئيسة:
هجيني قصير: ( ونّيت ونّة قطيع النوم..تايه ولا من يجدّيني/ لـ سليم الدبيسي )
هجيني الرمل: ( هيه ويللي معتلين على السلايل / لـ جادالله سلام )، أو (من هضابٍ شاد اهلنا فوق منا / لـ زيد الأطرش)
هجيني طويل: (هبت هبوب الشمالي بردها شينه / لـ هايل السرور).
والنوع المشترك الثاني هو الحدا المستوحى من مشي الخيل والذي يتميز بسرعة إيقاعه ويغنى على ظهور الخيول ويمتاز بإيقاع حماسي كان يقال أثناء الذهاب إلى الحرب
وهو ايضاً نوعان قصير مثل: ( يا ام الوحيد ابكي عليه ..الموت ما يرحم حدا ) وطويل مثل ( يا ديرتي مالك علينا لوم ). أو(لي عشير بمغيب الشمس…وأنا على حد مطلاعه.
الفكر يحمس عليهن حمس…….والنار بالقلب لذّاعة/ لــ شاعر حوران ياسين الحريري
والنوع المشترك الثالث والذي يكتب به غالبية شعراء درعا و السويداء هو الشروقي ويسمى المسحوب والذي يعتبر وزنه حكراً على التراث الشعبي فقط إذ لا يوجد من بحور الفراهيدي ما يوافقه./ مستفعلن مستفعلن فاعلات/
مثال قصيدة الدهر:( الدهر دولابٍ على الناس دوار….واليوم دور رحاه داير علينا / لــ جادالله سلام)
أو ما قاله الشاعر عازر غنيم البشارة من قرية خربا: (بيتٍ تجيه الريح من كل الجناب…قطّاب للضيفان مفتوح بابه)
وأيضاً هناك الموال والزفّة وأغاني الأعراس مثل أغنية (عا الحجر برا) المهاهاة ورباعيات يا ظريف الطول ويابو الزلف. وهو نمط من فنون النظم الملحقة بالشعر ويكون عامياً أو فصيحاً مثل:
( عالعين موليّتين واطنعش موليا) أو(هيهات يا بو الزلف عيني يا موليّا )
ومن المعروف أن أبو الزلف والموليا هي أغاني شائعة في سورية عموماً وليس بالضرورة أن يكون لمنطقة حوران فقط إذ أن أم الزلف هو الاسم الذي كان يطلق على الآلهة عشتار ربة الخصب والجمال والحرب عند السوريين القدماء والتي يعتمد عليها التقويم السوري المرتبط بأساطير الخصب المنبثقة من أحوال الطبيعة وتعاقب الفصول، و”الزلف” هي كلمة سريانية تدل على الأشياء التي تحمل مفهوم الجمال أما كلمة “موليا” فتعني بالسريانية الوفرة والإشباع، وكلها على صلة بمكانة عشتار لدى السوريين.
ولعل أشهر الفنون الموحّدة بين المحافظتين هي الدلعونا وهي عبارة عن أغنية بتلحين يناسب رقصات الدبكة الفلكلورية، واشتهرت بين الشعوب المتواجدة في المنطقة الممتدة من “أنطاكية” شمال سورية حتى خليج العقبة جنوباً، ولها إيقاعات كثيرة لا تعد، ويمكن أن تؤلف عليها المقاطع الغنائية لأية مناسبة مهما كان نوعها “حزن” و”فرح” و”مديح” و”وصف” و”فخر” وحتى في مجال الروحانيات، ولها تسميات مختلفة ترتبط بأدائها وحالة المؤدي العامة، مثل “الدلعونة” و”الميلة” و”الكرجة”، ولكل منها دبكتها الخاصة بها، لكن الطريف في هذه الأغنية فضلاً عن تنوعها واتساع انتشارها هو تعدد معانيها فمثل كل الكلمات الموروثة، اختلفت الآراء في أصل التسمية؛ البعض ذهب إلى أنّ أصلها ثلاثي من “دلع” والتي تفيد معنى الدلال والغنج، كما ذُكر أنّ أصل الكلمة مشتق من اسم “عناة”، وهي ابنة الإله “ايل”، وهي آلهة الحب والحرب عند الكنعانيين وكانوا يسمونها الخطّابة، حيث يتضرع الشباب الذين يرغبون بالزواج من حبيباتهم للآلهة “عناة”…
ويبقى الاعتقاد الشائع هو أنّ أصل الدلعونا يآتي من “مدّ يد العون”، خلال جني المواسم أو سلق القمح أو عند البناء، كانوا يتنادون “دلعونا” طلباً لمساعدة أهل القرية وذكر زكي ناصيف أن الدلعونا أصلها سرياني مؤلفة من أل التعريف السريانية “د”، وكلمة الـ”عونا” والتي تعني “المساعدة”… وفي عهد الحضارة العربية في بلاد الشام انفصلت هذه الكلمة عن دلالاتها الأصلية في السريانية، وصارت تدل على الولع حينما تغنّى ويدبك الناس على لحنها ومقامها، واستقلت الأغنية عن مناسبتها المباشرة (العون)، فصارت دبكة “الدلعونا” وأغانيها لكل مناسبة كالأعراس، الأفراح والمآتم كما للندم، ولحنها من مقام البيات ولا يتعدّى شأنه شأن سائر الغناء الشعبي عادة أربع نغمات.
إنَّ أغنيات هاتين المنطقتين و تراثهما الشعبي يشكلان لوحة حيّة من الموسيقى والإيقاع لا تنفصل أجزاؤها فكأن للجنوب روحاً واحدة تسكن جميع قاطنيه..
‐————————-
المصادر :
-جابر محمد “من أغاني الأفراح والأتراح في جبل العرب ” الناشر: دار البلد للطباعة والنشر، تاريخ النشر 2020
-مارون عبود، “الأعمال الكاملة”، الناشر: دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع، تاريخ النشر: 01/01/1982
-لحد خاطر، “العادات والتقاليد اللبنانية”، الطبعة رقم: 1، الناشر: دار لحد خاطر.
-الخلي، صفي الدين، “الأدب الشعبي العراقي” صفحة 164
ديوان لآلئ كنعان. إصدار خاص. دمشق 1995
-انواع واوزان الشعر الشعبي: حازم النجم _ شاعر وباحث/ مقابلة خاصة
– العونة: شرح زكي ناصيف لأصل دلعونا – عن صحيفه النهار اللبنانيةنسخة محفوظة 26 يناير 2016 على موقع واي باك مشين.
من كتاب (دمشق في مطلع القرن العشرين) لمؤلفه أحمد حلمي العلاف طبعة عام 1983
-باش، حسن، السهلي، محمد توفيق، “المعتقدات الشعبية في التراث العربي”، 1987

اترك تعليق